فصل: تفسير الآيات رقم (1- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 22‏]‏

‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثرُ، وذلك يبيِّنه مَا وقع من الكلام الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم‏.‏

والمناسبة وصفُ القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالَبهم بالإِيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والذي عُرِّف بقوله‏:‏ ‏{‏من استغنى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 5‏]‏ يشمله العموم الذي أفاده تعريف ‏{‏الإِنسان‏}‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏‏.‏

وفعل قُتل فُلانٌ أصله دعاء عليه بالقتل‏.‏ والمفسرون الأولون جعلوا‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان‏}‏ أنه لُعِن، رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله مجاهد وقتادة وأبو مالك‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم»، أي فمورده غير مورد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلهم اللَّه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وقولِهم‏:‏ قاتَل الله فلاناً يريدون التعجب من حاله، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله‏:‏ ‏{‏ما أكفره‏}‏ يغني عن ذلك‏.‏

والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء‏.‏

وبناء ‏{‏قتل‏}‏ للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء، إذ لا غرض في قاتِل يَقتله، وكثر في القرآن مبنياً للمجهول نحو ‏{‏فقتل كيف قدر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وتعريف ‏{‏الإنسان‏}‏ يجوز أن يكون التعريفَ المسمى تعريفَ الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس، وهو استغراق حقيقي، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولَّدَ بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني، ويسمى العامَّ المرادَ به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بُين به كفر الإِنسان من قوله‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم إذا شاء أنشره‏}‏ فيكون المراد من قوله‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ المشركين المنكرين البعث، وعلى ذلك جملة المفسرين، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ما كان في القرآن ‏{‏قتل الإنسان‏}‏ فإنما عُني به الكافر‏.‏

والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس، فالاستغراق الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان، فقوله‏:‏ ‏{‏ما أكفره‏}‏ تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر‏.‏

فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإِنسان‏.‏

فغالب الناس كفروا بالله من أَقدم عصور التاريخ وتفَشَّى الكفر بين أفراد الإِنسان وانتصروا له وناضلوا عنه‏.‏ ولا أعجبَ من كفر من أَلَّهوا أعْجز الموجودات من حجارة وخشب، أو نَفَوا أن يكون لهم رب خلقهم‏.‏

ويجوز أن يكون تعريف ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يُعيِّنه خبر سبب النزول، فقيل‏:‏ أريد به أميةُ بن خلف، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة‏.‏

وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، والمناسبة ظاهرة‏.‏

وجملة ‏{‏ما أكفره‏}‏ تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد‏.‏ وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان‏.‏

ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كَمّاً وكيْفاً، ومتىً، لأنه كفر بوحدانية الله، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء، وبإرساله الرسول، وبالوحي إليه صلى الله عليه وسلم وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإِنذار والتهديد‏.‏

وهذه الجملة بلغت نهاية الإِيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حدّ المذمة، جامع للملامة، ولم يسمع مثلها قبلها، فهي من جوامع الكلم القرآنية‏.‏

وحذف المتعلِّق بلفظ ‏{‏أكفره‏}‏ لظهوره من لفظ «أكفَرَ» وتقديرُه‏:‏ ما أكفره بالله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏ محسّن الاتِّزَان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة‏.‏

وجملة ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ بيان لجملة ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏، لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإِنكار من أكبر أصول كفرهم‏.‏

وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه، ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عم يتساءلون عن النبأ العظيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1 2‏]‏‏.‏

والاستفهام صوري، وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي به خلق الإنسان لأن المقام هنا ليس لإِثبات أن الله خلق الإِنسان، بل المقام لإِثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏ أي كما كان خلق الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن مَّا، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلينظر الإِنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر‏}‏ في سورة الطارق ‏(‏5 8‏)‏‏.‏

والضمير المستتر في قوله‏:‏ خلقه‏}‏ عائد إلى لله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان‏.‏

وقدم الجار والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏من نطفة خلقه‏}‏ محاكاة لتقديم المبيَّن في السؤال الذي اقتضى تقديمَه كونُه استفهاماً يستحق صدر الكلام، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كوّن أبدع مخلوققٍ معروف من أهون شيء وهو النطفة‏.‏

وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقدم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع‏.‏

فذكر فعل ‏{‏خلقه‏}‏ الثاني من أسلوب المساواة ليس بإيجاز، وليس بإطناب‏.‏

والنطفة‏:‏ الماء القليل، وهي فُعلة بمعنى مفعولة كقولهم‏:‏ قُبضةُ حَب، وغُرفة ماء‏.‏ وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل، فذُكرت النطفة لتعيُّن ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء إلى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر، على أن المقام هنا للدلالة على خلققٍ عظيم وليس مقام زجر المتكبر‏.‏

وفُرع على فعل ‏{‏خلقه‏}‏ فعلُ ‏{‏فقدره‏}‏ بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخلق كل شيء فقدره تقديراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئاً للنماء وما يلابسه من العقل والتصرف وتمكينه من النظر بعقله، والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرَّجاً مفرعاً‏.‏

وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان في خلال الاستدلال‏.‏

وحرف ‏{‏ثم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ثم السبيل يسره‏}‏ للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثَرُ العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة‏.‏

و ‏{‏السبيل‏}‏‏:‏ الطريق، وهو هنا مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيهاً للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيهَ المحسوس بالمعقول‏.‏

ويجوز أن يكون مستعاراً لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك المَمر اسم السبيل في قولهم‏:‏ «السبيلان» فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه‏.‏ وفيه مناسبة لقوله بعده‏:‏ ‏{‏ثم أماته فأقبره‏}‏، ف ‏{‏أماته‏}‏ مقابل ‏{‏خلقه‏}‏ و‏{‏أقبره‏}‏ مقابل ‏{‏ثم السبيل يسره‏}‏ لأن الإِقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض‏.‏

والتيسير‏:‏ التسهيل، و‏{‏السبيل‏}‏ منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال، والضمير عائد إلى ‏{‏السبيل‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ يسّر السبيل له، كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏ أي لذِكر الناس‏.‏

وتقديم ‏{‏السبيل‏}‏ على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين، وفيه رعاية للفواصل‏.‏

وكذلك عطف ‏{‏ثم أماته‏}‏ على ‏{‏يسره‏}‏ بحرف التراخي هو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القُوى العقلية والحسيّة بالموت، بعد أن كانت راسخة زمناً ما، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظارِ زماننٍ يساوي مدة بقائها، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة‏.‏

ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يُحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حيّ آيل إلى الموت لا محالة، فالمعنى‏:‏ ثم أماته ويُميته‏.‏

فصيغة المضي في قوله‏:‏ ‏{‏أماته‏}‏ مستعملة في حقيقته وهو موت من مات، ومجازِه وهو موت من سيموتون، لأن موتهم في المستقبل محقق‏.‏ وذكر جملة‏:‏ ‏{‏ثم أماته‏}‏ توطئة وتمهيد لجملة ‏{‏فأقبره‏}‏‏.‏

وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال‏.‏ وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج‏:‏ ‏{‏فقدره ثم السبيل يسره‏}‏ فيما سبق‏.‏

و ‏{‏أقبره‏}‏ جعله ذا قبر، وهو أخص من معنى قَبَره، أي أن الله سَبّب له أن يقبر‏.‏ قال الفراء‏:‏ «أي جعله مقبوراً، ولم يجعله ممن يُلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس» ‏(‏جمع ناووس صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه‏)‏‏.‏

والإِقبار‏:‏ تهيئة القبر، ويقال‏:‏ أقبره أيضاً، إذا أمر بأن يُقبر، ويقال‏:‏ قبر المَيت، إذا دفنه، فالمعنى‏:‏ أن الله جعل الناس ذوي قبور‏.‏

وإسناد الإِقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي لأن الله ألهم الناس الدَّفن كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميتتٍ حفرةً فواراه فيها، وهي في سورة العقود، فأسند الإِقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه‏.‏ وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من وجوب دفن المَيت‏.‏

والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة ‏{‏أماته‏}‏‏.‏

وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عَدوها قاصرة على الخلق الثاني، وهي تتضمن منناً على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء، وإكرامهم أمواتاً بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللّقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب، فمحل المنة في قوله‏:‏ ‏{‏ثم أماته‏}‏ هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله‏:‏ ‏{‏فأقبره‏}‏ وليست الإِماتة وحدها منة‏.‏

وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإِقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند، ودون الإِلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه قال الشنفَرَى‏:‏

لا تقبروني إن قبري محرَّم *** عليكم ولكن أبشري أمَّ عامر

يريد أن تأكله الضبع، وأبطل الإسلام ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفَن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة، ووارَى قتلى المشركين ببدر في قليب، قال عمرو بن معديكرب قبل الإِسلام‏:‏

آليتُ لا أدفِن قتلاكُمُ *** فدَخِّنُوا المَرْءَ وسِرْبَالَه

وجملة‏:‏ ‏{‏ثم إذا شاء أنشره‏}‏ رجوع إلى إثبات البعث وهي كالنتيجة عقب الاستدلال‏.‏ ووقع قوله‏:‏ ‏{‏إذا شاء‏}‏ معترضاً بين جملة ‏{‏أماته‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏أنشره‏}‏ لرد توهم المشركين أن عدم التعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه في المستقبل و‏(‏إذا‏)‏ ظرف للمستقبل ففعل المضي بعدها مؤول بالمستقبل‏.‏

والمعنى‏:‏ ثم حين يشاء ينشره، أي ينشره حين تتعلق مشيئته بإنشاره‏.‏

و ‏{‏أنشره‏}‏ بعثه من الأرض وأصل النشر إخراج الشيء المخبأ يقال‏:‏ نشر الثوب، إذ أزال طيّه، ونشر الصحيفة، إذا فَتحها ليقرأها‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ «فنشروا التوراة»‏.‏

وأما الإِنشار بالهمز فهو خاص بإخراج الميت من الأرض حيّاً وهو البعث، فيجوز أن يقال‏:‏ نُشِر الميت، والعَرب لم يكونوا يعتقدون إحياء الأموات إلا أن يكونوا قد قالوه في تخيلاتهم التوهمية‏.‏ فيكون منه قول الأعشى‏:‏

حتى يقول الناس ممّا رأوا *** يا عَجَباً للْمَيِّتتِ النَّاشِر

ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إذا شاء‏}‏ ردّ لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحدياً وتهكماً ليجعلوا عدم الاستجابة بتعجيله دليلاً على أنه لا يكون، فأعلمهم الله أنه يقع عندما يشاء الله وقوعه لا في الوقت الذي يسألونه لأنه موكول إلى حكمة الله، واستفادة إبطال قولهم من طريق الكناية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏‏}‏

تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأوِلين فيها بعضها جَافَّ المَنال، وبعضها جاففٍ عن الاستعمال‏.‏ ذلك أن المعروف في ‏{‏كلاَّ‏}‏ أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يُزجر عنه ولا أن يُبطل، فتعين المصير إلى تأويل مورد ‏{‏كَلاَّ‏}‏‏.‏

فأما الذين التزموا أن يكون حرف ‏{‏كَلاَّ‏}‏ للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإِنكار إلى ما يُومئ إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه‏.‏

فمنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما قبل ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ممّا يومئ إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا شاء أنشره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 22‏]‏، أي إذا شاء الله، إذ يومئ إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلَّ بأنه لم ينشر أحداً منذ القدم إلى الآن‏.‏ وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم‏.‏

وموقع ‏{‏كَلاَّ‏}‏ على هذا التأويل موقع الجواب بالإِبطال، وموقع جملة‏:‏ ‏{‏لما يقض ما أمره‏}‏ موقع العلة للإِبطال، أي لو قَضَى ما أمره الله به لعِلم بطلان زعمه أنه لا ينشر‏.‏

وتأوله في «الكشاف» بأنه‏:‏ «ردْع للإِنسان عما هو عليه» أي مِمَّا ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع، يريد أنه زجر عن مضمون‏:‏ ‏{‏ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏‏.‏

ومنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما بعد ‏{‏كلاّ‏}‏ مما يومئ إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لما يقض ما أمره‏}‏ أي ليس الأمر كما يقول هذا الإِنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه، ويُتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد، وهو أقرب لأن ما بعد ‏{‏كَلاَّ‏}‏ لما كان نفياً ناسب أن يُجعل ‏{‏كلاّ‏}‏ تمهيداً للنفي‏.‏

وموقع ‏{‏كلاّ‏}‏ على هذا الوجه أنها جزء من استئناف‏.‏

وموقع جملة‏:‏ ‏{‏لما يقض ما أمره‏}‏ استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه إلى قوله‏:‏ أنشره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18 22‏]‏، أي إنما لم يَهتد الكافرُ إلى دلالة الخلق الأول على إمكاننِ الخلق الثاني، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله‏.‏

وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في ‏{‏كلاّ‏}‏ وهم الكسائي القائل‏:‏ تكون ‏{‏كلاّ‏}‏ بمعنى حقاً، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل‏:‏ تكون ‏{‏كلا‏}‏ بمعنى ‏(‏ألاّ‏)‏ الاستفتاحية‏.‏

والنضر بن شميل والفرّاء القائلان‏:‏ تكون ‏{‏كلاّ‏}‏ حَرفَ جواب بمعنى نعم‏.‏ فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر‏.‏

وعن الفراء ‏{‏كلاّ‏}‏ تكون صلة ‏(‏أي حرفاً زائداً للتأكيد‏)‏ كقولك‏:‏ كلاَّ ورب الكعبة ا ه‏.‏ وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية‏.‏

فالوجه في موقع ‏{‏كلاّ‏}‏ هنا أنه يجوز أن تكون زجراً عما يفهم من قوله‏:‏

‏{‏ثم إذا شاء أنشره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 22‏]‏ المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيداً للإِبطال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كلا إنها تذكرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 11‏]‏ باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غيرَ باطل فقوله‏:‏ ‏{‏إذا شاء‏}‏ مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه، أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما ننشرهم عندما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي‏.‏

وتكون جملة‏:‏ ‏{‏لما يقض ما أمره‏}‏ تعليلاً للردع، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن، ويكون المراد بالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ما أمره‏}‏ أمر التكوين، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 36‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون زجراً عما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏لما يقض ما أمره‏}‏ وقدمت ‏{‏كلاّ‏}‏ في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر‏.‏

وتقدم الكلام في ‏{‏كلاّ‏}‏ في سورة مريم وأحَلْتُ هنالك على ما هنا‏.‏

و ‏{‏لَمَّا‏}‏ حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل ‏(‏لَمْ‏)‏ ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏‏.‏

والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مِما دعاه إليه‏.‏

والقضاء‏:‏ فعل ما يجب على الإنسان كاملاً لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلاً تاماً، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضاً عن الإيمان الذي أمره الله به، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطواراً إلى الموت قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان مما خلق‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5‏]‏، وما أمره من التدَبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه‏.‏ ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر‏.‏

والضمير المستتر في ‏{‏أمره‏}‏ عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في ‏(‏خلقه، وقدره، ويسره، وأماته، وأقبره، وأنشره‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 32‏]‏

‏{‏فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

إما مفرع على قوله‏:‏ ‏{‏لما يقض ما أمره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 23‏]‏ فيكون مما أمره الله به من النظر، وإما على قوله‏:‏ ‏{‏ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر الإنسان‏.‏ والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة، إذ التقدير‏:‏ إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه‏.‏ وهذا نظير الفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4، 5‏]‏، أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر مِمَّ خُلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو‏.‏

وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإِنسان ما أهملَه وكان الانتقال من الاستدلال بما في خَلْق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18‏]‏ إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخاً للاستدلال، وتفنناً فيه، وتعريضاً بالمنة على الإِنسان في هذه الدلائل، من نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام‏.‏

وتعدية فعل النظر هنا بحرف ‏{‏إلى‏}‏ تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره‏.‏ والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض‏.‏ وجُعل المنظور إليه ذاتَ الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به‏.‏

وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أي أكلها، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكوّن الحبوب والثمار التي بها طعامه، وقد وُصف له تطور ذلك ليَتَأمل ما أودع إليه في ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يَره، ولا يخلو أحد عن علممٍ إجمالي بذلك، فيزيده هذا الوصف علماً تفصيلياً، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد، وقد يكون تمثيلاً في جميع تلك الأطوار بأن تُخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بَذرها في الأرض ويُرسل الله لها قُوى لا نعلمها تُشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏

وفي «تفسير ابن كثير» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا النفوس زوجت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 7‏]‏ عن ابن ‏(‏أبي‏)‏ حاتم بسنده إلى ابن عباس‏:‏ «يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كلُّ خلق بَلِي إنساننٍ أو دابة ولو مرّ عليهم مارٌّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد» ا ه‏.‏

وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكُنْه وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي‏.‏

والإِنسان المذكور هنا هو الإِنسان المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18‏]‏، لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداءُ كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإِيضاح‏.‏

وأدمج في ذلك منة عليه بالإمداد بالغذاء الذي به إخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج، وَبِسبب كد الأعمال البدنية والإِفرازات، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب‏.‏

وإنما تعلق النظر بالطعام مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام، إجراءً للكلام على الإِيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله‏:‏ ‏{‏إنا صببنا الماء صباً‏}‏ إلى آخرها‏.‏

فالتقدير‏:‏ فلينظر الإِنسان إلى خَلق طعامه وتهيئة الماء لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إنا صببنا‏}‏ بكسر همزة ‏(‏إنَّا‏)‏ على أن الجملة بيان لجملة‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان إلى طعامه‏}‏ لتفصيل ما أجمل هنالك على وجه الإيجاز‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بفتح الهمزة على أنه اسم بدلُ اشتمال من ‏{‏طعامه‏}‏ أو البدلُ الذي يسميه بعض النحويين بدل مفصَّل من مجمل‏.‏

والصَّب‏:‏ إلقاء صبرة متجمعة من أجزاء مائعة أو كالمائعة في الدقة في وعاء غير الذي كانت فيه، يقال‏:‏ صَب الماء في الجَرة، وصب القَمح في الهَرِي، وصَبَّ الدراهم في الكِيس‏.‏ وأصله‏:‏ صبّ الماء، مثل نزول المطر وإفراغ الدلو‏.‏

والشق‏:‏ الإِبعاد بين ما كان متصلاً‏.‏ والمراد هنا شقّ سطح الأرض بخرق الماء فيه أو بآلة كالمحراث والمسحاة، أو بقوة حرّ الشمس في زمن الصيف لتتهيأ لقبول الأمطار في فصل الخريف والشتاء‏.‏

وإسناد الصّب والشق والإِنبات إلى ضمير الجلالة لأن الله مقدِّر نظام الأسباب المؤثرة في ذلك، ومُحْكِمُ نواميسها ومُلهمُ الناس استعمالها‏.‏

فالإسناد مجاز عقلي في الأفعال الثلاثة‏.‏ وقد شاع في ‏{‏صببنا‏}‏ و‏{‏أنبتنا‏}‏ حتى ساوَى الحقيقة العقلية‏.‏

وانتصب ‏{‏صبّاً‏}‏ و‏{‏شقاً‏}‏ على المفعول المطلق ل ‏{‏صببنا‏}‏ و‏{‏شققنا‏}‏ مؤكّداً لعامله ليتأتى تنوينه لما في التنكير من الدلالة على التعظيم وتعظيم كل شيء بما يناسبه وهو تعظيم تعجيب‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأنبتنا‏}‏ للتفريع والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه‏.‏

والحَب أريد منه المقتات منه للإِنسان، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل حبة أنبتت سبع سنابل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏261‏)‏‏.‏

والعِنب‏:‏ ثمر الكَرم، ويتخذ منه الخمر والخل، ويؤكل رَطباً، ويتخذ منه الزبيب‏.‏

والقضبُ‏:‏ الفِصْفصة الرطبة، سميت قضباً لأنها تعلف للدواب رطبة فتقضب، أي تقطع مرة بعد أخرى ولا تزال تُخلف ما دام الماء ينزل عليها، وتسمى القَت‏.‏

والزيتون‏:‏ الثمر الذي يعصر منه الزيت المعروف‏.‏

والنخل‏:‏ الشجر الذي ثمرته التمر وأطوارهُ‏.‏

والحدائق‏:‏ جمع حديقة وهي الجنة من نخل وكَرم وشجرِ فواكهَ، وعطفُها على النخل من عطف الأعم على الأخص، ولأن في ذكر الحدائق إدماجاً للامتنان بها لأنها مواضع تنزههم واخترافهم‏.‏

وإنما ذكر النخل دون ثمرته، وهو التمر، خلافاً لما قُرن به من الثمار والفواكهِ والكلأ، لأن منافع شجر النخيل كثيرة لا تقتصر على ثمره، فهم يقتاتون ثمرته من تمر ورُطب وبُسر، ويأكلون جُمَّاره، ويَشربون ماء عود النخلة إذا شُق عنه، ويتخذون من نَوى التمر علفاً لإبلهم، وكل ذلك من الطعام، فضلاً عن اتخاذهم البيوت والأواني من خشبه، والحُصُر من سَعَفه، والحبالَ من لِيفه‏.‏ فذِكْرُ اسم الشجرة الجامعة لهذه المنافع أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال وإدماج الامتنان بوفرة النعم، وقد تقدم قريباً في سورة النبأ‏.‏

والغُلْب‏:‏ جمع غلباء، وهي مؤنث الأغلب، وهو غَليظُ الرقبة، يقال‏:‏ غلب كفرح، يوصف به الإنسان والبعير، وهو هنا مستعار لغلظ أصول الشجر فوصف الحدائق به؛ إما على تشبيه الحديقة في تكاثف أوراق شجرها والتفافها بشخص غليظ الأوداج والأعصاب فتكون استعارة، وإما على تقدير محذوف، أي غُلْببٍ شَجَرُها، فيكون نعتاً سببيّاً وتكون الاستعارة في تشبيه كل شجرة بامرأة غليظة الرقبة، وذلك من محاسن الحدائق لأنها تكون قد استكملت قوة الأشجار كما في قوله‏:‏ ‏{‏وجنات ألفافاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وخصت الحدائق بالذكر لأنها مواضع التنزه والاختراف، ولأنها تجمع أصنافاً من الأشجار‏.‏

والفاكهة‏:‏ الثمار التي تؤكل للتفكه لا للإقتيات، مثل الرُّطَب والعِنب الرَّطْب والرمان واللوز‏.‏

والأبُّ‏:‏ بفتح الهمزة وتشديد الباء‏:‏ الكلأ الذي ترعاه الأنعام، روي أن أبا بكر الصديق سُئل عن الأبّ‏:‏ ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ «أيُّ سماءٍ تُظلني، وأيُّ أرض تُقِلَّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به» وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوماً على المنبر‏:‏ ‏{‏فأنبتنا فيها حباً‏}‏ إلى ‏{‏وأبّاً‏}‏ فقال‏:‏ كلّ هذا قد عرفناه فما الأبّ‏؟‏ ثم رفع عصا كانت في يده، وقال‏:‏ هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ ابتغوا ما بُيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فَكِلوه إلى ربه»‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن عُمر بعض هذا مختصراً‏.‏

والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول الأبّ وهما من خُلّص العرببِ لأحد سببين‏:‏

إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسى في بعضها مثل اسم السِّكين عندَ الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك‏:‏ «ما كُنَّا نَقول إلا المُدْية حتى سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان عليه السلام قال‏:‏

‏"‏ ائيتوني بالسكين أقْسِمْ الطفْلَ بينهما نصفين ‏"‏‏.‏

وإما لأن كلمة الأبّ تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأبّ مما يرجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏متاعاً لكم‏}‏ أو إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولأنعامكم‏}‏ في جمْع ما قُسِّم قبله‏.‏

وذكر في «الكشاف» وجهاً آخر خاصاً بكلام عُمر فقال‏:‏ «إن القوم كانتْ أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يُعمل به تكلفاً عندهم، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإِنسان‏.‏ وقد علم من فحوى الآية أنّ الأبَّ بعض ما أنبته الله للإِنسان متاعاً له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عُدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يَجروا على هذا السَنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن ا ه»‏.‏ ولم يأت كلام «الكشاف» بأزيد من تقرير الإِشكال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏متاعاً لكم‏}‏ حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة، وهذا نوع من التنازع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولأنعامكم‏}‏ عطَف قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏‏.‏

والمتاع‏:‏ ما يُنتفع به زمناً ثم ينقطع، وفيه لف ونشر مُشَوَّش، والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره‏.‏ وهذه الحال واقعة موقع الإِدماج أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ‏(‏34‏)‏ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ‏(‏35‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ‏(‏36‏)‏ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع على اللوْم والتوبيخ في قوله‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ وما تبعه من الاستدلال على المشركين من قوله‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ إلى قوله ‏{‏أنا صببنا الماء صباً‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18 25‏]‏، ففُرع على ذلك إنذار بيوم الجزاء، مع مناسبة وقوع هذا الإِنذار عقب التعريض والتصريح بالامتنان في قوله‏:‏ ‏{‏إلى طعامه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 24‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 32‏]‏ على نحو ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاءت الطامة الكبرى‏}‏ من سورة النازعات ‏(‏34‏)‏‏.‏

والصَّاخّة‏}‏‏:‏ صيحة شديدة من صيحات الإِنسان تَصُخ الأسماع، أي تُصِمها‏.‏ يقال‏:‏ صَخَّ يصخ قاصراً ومتعدياً، ومضارعه يصُخ بضم عينه في الحالين‏.‏ وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقها اختلافاً لا جدوَى له، وما ذكرناه هو خلاصة قول الخليل والراغب وهو أحسن وأجرى على قياس اسم الفاعل من الثلاثي، فالصاخّة صارت في القرآن عَلماً بالغَلبة على حادثةِ يوم القيامة وانتهاءِ هذا العالم، وتحصل صيحات منها أصوات تزلزل الأرض واصطدام بعض الكواكب بالأرض مثلاً، ونفخة الصُّور التي تبعث عندها الناس‏.‏ و‏(‏إذا‏)‏ ظرف وهو متعلق ب ‏{‏جاءت الصاخّة‏}‏ وجوابه قوله‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مسفرة‏}‏ الآيات‏.‏

والمجيء مستعمل في الحصول مجازاً، شُبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر‏.‏

و ‏{‏يوم يفر المرء من أخيه‏}‏ بدل من ‏{‏إذا جاءت الصاخة‏}‏ بدلاً مطابقاً‏.‏

والفرار‏:‏ الهروب للتخلص من مُخيف‏.‏

وحرف ‏(‏من‏)‏ هنا يجوز أن يكون بمعنى التعليل الذي يُعدّى به فعل الفرار إلى سبب الفرار حين يقال‏:‏ فَرّ من الأسد، وفرّ من العدو، وفرّ من الموت، ويجوز أن يكون بمعنى المجاوزة مثل ‏(‏عن‏)‏‏.‏

وكون أقرب الناس للإِنسان يفرّ منهم يقتضي هولَ ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه يُنْجِيه من الوقوع في مثله، إذ قد علم أنه كان مماثلاً لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس معزة وحرص على سلامة صاحبها وكرامته‏.‏ والألفَ يحدث في النفس حرصاً على الملازمة والمقارنة‏.‏ وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة فما ظنك بهول يغْشَى على هذين الوجدانين فلا يَترك لهما مجالاً في النفس‏.‏

ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجاً في تهويل ذلك اليوم‏.‏

فابتدئ بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة، ثم ارتُقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قرباً لابْنيهما، وقدمت الأم في الذكر لأن إلْفَ ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مُجتمع عائلة الإِنسان وأشد الناس قرباً به وملازمة‏.‏

وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال‏:‏ يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلاً لإحضار صورة الهول في نفس السامع‏.‏

وكل من هؤلاء القرابة إذا قدرتَه هو الفارّ كان مَن ذُكر معه مفروراً منه إلا قولَه‏:‏ ‏{‏وصاحبته‏}‏ لظهور أن معناه‏:‏ والمرأةِ من صاحبها، ففيه اكتفاء، وإنما ذُكرتْ بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوج لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة‏.‏

والأقرب أن هذا فرار المؤمن من قرابته المشركين خشية أن يؤاخذ بتبعتهم إذْ بَقُوا على الكفر‏.‏

وتعليق جار الأقرباء بفعل‏:‏ ‏{‏يفر المرء‏}‏ يقتضي أنهم قد وقعوا في عذاب يخشون تعديه إلى من يتصل بهم‏.‏

وقد اجتمع في قوله‏:‏ ‏{‏يوم يفر المرء من أخيه‏}‏ إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه وهم يتعيرون بالجبن وكونَه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لزيادة تهويل اليوم، وتنوينُ ‏{‏شأن‏}‏ للتعظيم‏.‏

وحيث كان فرار المرء من الأقرباء الخمسة يقتضي فرار كل قريب من أولئك من مثله كان الاستئناف جامعاً للجميع تصريحاً بذلك المقتضَى، فقال‏:‏ ‏{‏لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه‏}‏ أي عن الاشتغال بغيره من المذكورات بَلْهَ الاشتغال عمن هو دون أولئك في القرابة والصحبة‏.‏

والشأن‏:‏ الحال المهم‏.‏

وتقديم الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏لكل امرئ‏}‏ على المبتدأ ليتأتى تنكير ‏{‏شأن‏}‏ الدال على التعظيم لأن العرب لا يبتدئون بالنكرة في جملتها إلا بمسوغ من مسوغاتتٍ عَدَّها النحاة بضعةَ عشر مسوغاً، ومنها تقديم الخبر على المبتدإ‏.‏

والإِغناء‏:‏ جعل الغير غنياً، أي غير محتاج لشيء في غرضهِ‏.‏ وأصل الإِغناء والغنى‏:‏ حصول النافع المحتاج إليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أغنى عنكم من اللَّه من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ما أغنى عني ماليه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقد استعمل هنا في معنى الإِشغال والإِشغال أعم‏.‏

فاستعمل الإغناء الذي هو نفع في معنى الإِشغال الأعم على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة إيماء إلى أن المؤمنين يشغلهم عن قرابتهم المشركين فرط النعيم ورفع الدرجات كما دل عليه قوله عقبه‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ مسفرة‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ مسفرة‏}‏ جواب ‏(‏إذا‏)‏، أي إذا جاءت الصاخة كان الناس صنفين صنف وجوههم مسفرة وصنف وجوههم مغبرة‏.‏

وقدم هنا ذكر وجوه أهل النعيم على وجوه أهل الجحيم خلافَ قوله في سورة النازعات ‏(‏37‏)‏ ‏{‏فأما من طغى‏}‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏وأما من خاف مقام ربه‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏ إلى آخره لأن هذه السورة أقيمت على عماد التنويه بشأن رجل من أفاضل المؤمنين والتحقير لشأن عظيم من صناديد المشركين فكان حظ الفريقين مقصوداً مسوقاً إليه الكلام وكان حظ المؤمنين هو الملتفت إليه ابتداء، وذلك من قوله‏:‏

‏{‏وما يدريك لعله يزكى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3‏]‏ إلى آخره، ثم قوله‏:‏ ‏{‏أما من استغنى فأنت له تصدى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏

وأما سورة النازعات فقد بُنِيت على تهديد المنكرين للبعث ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 6 8‏]‏ فكان السياق للتهديد والوعيد وتهويل ما يلقونه يوم الحشر، وأما ذكر حظ المؤمنين يومئذ فقد دعا إلى ذكره الاستطراد على عادة القرآن من تعقيب الترهيب بالترغيب‏.‏

وتنكير ‏{‏وجوه‏}‏ الأول والثاني للتنويع، وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ‏.‏

وإعادة ‏{‏يومئذ‏}‏ لتأكيد الربط بين الشرط وجوابه ولطول الفصل بينهما والتقدير‏:‏ وجوه مسفرة يوم يفرّ المرء من أخيه إلى آخره‏.‏

وقد أغنت إعادة ‏{‏يومئذ‏}‏ عن ربط الجواب بالفاء‏.‏

والمسفرة ذات الإسفار، والإِسفار النور والضياء، يقال‏:‏ أسفر الصبح، إذا ظهر ضوء الشمس في أفق الفجر، أي وجوه متهللة فرحاً وعليها أثر النعيم‏.‏

و ‏{‏ضاحكة‏}‏ أي كناية عن السرور‏.‏

و ‏{‏مستبشرة‏}‏ معناه فَرِحة، والسين والتاء فيه للمبالغة مثل‏:‏ استجاب، ويقال‏:‏ بَشَر، أي فرِح وسُرَّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال يا بشراي هذا غلام‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 19‏]‏ أي يا فرحتي‏.‏

وإسناد الضحك والاستبشار إلى الوجوه مجاز عقلي لأن الوجوه محلّ ظهور الضحك والاستبشار، فهو من إسناد الفعل إلى مكانه، ولك أن تجعل الوجوه كناية عن الذوات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وهذه وجوه أهل الجنة المطمئنين بالاً المكرمين عَرْضاً وحُضوراً‏.‏

والغَبَرة بفتحتين الغُبار كلَّه، والمراد هنا أنها معفّرة بالغُبار إهانة ومن أثر الكَبوات‏.‏

و ‏{‏ترهقها‏}‏ تغلب عليها وتعلوها‏.‏

والقترة‏:‏ بفتحتين شِبه دخان يغشى الوجه من الكرب والغم، كذا قال الراغب، وهو غير الغَبَرة كما تقتضيه الآية لئلا يكون من الإِعادة، وهي خلاف الأصل ولا داعي إليها‏.‏ وسوَّى بينهما الجوهري وتبعه ابن منظور وصاحب «القاموس»‏.‏

وهذه وجوه أهل الكفر، يعلم ذلك من سياق هذا التنويع، وقد صرح بذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكفرة الفجرة‏}‏ زيادة في تشهير حالهم الفظيع للسامعين‏.‏

وجيء باسم الإشارة لزيادة الإِيضاح تشهيراً بالحالة التي سببت لهم ذلك‏.‏

وضمير الفصل هنا لإفادة التقوي‏.‏

وأتبع وصف ‏{‏الكفرة‏}‏ بوصف ‏{‏الفجرة‏}‏ مع أن وصف الكُفر أعظم من وصف الفجور لما في معنى الفجور من خساسة العمل فذُكر وصفاهم الدالان على مجموع فساد الاعتقاد وفساد العمل‏.‏

وذكر وصف ‏{‏الفجرة‏}‏ بدون عاطف يفيد أنهم جمعوا بين الكفر والفجور‏.‏

سورة التكوير

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

الافتتاح ب ‏{‏ذا‏}‏ افتتاح مشوِّق لأن ‏{‏إذا‏}‏ ظرف يستدعي متعلَّقاً، ولأنه أيضاً شرط يؤذن بذكر جَواب بعده، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده فعند ما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكّن، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة ‏{‏إذا‏}‏‏.‏

وتعدّدِ الجمل التي أضيف إليها اثنتيْ عشرة مرة، فإعادة كلمة ‏{‏إذا‏}‏ بعد واو العطف في هذه الجمل المتعاطفة إطناب، وهذا الإِطناب اقتضاهُ قصد التهويل، والتهويل من مقتضيات الإِطناب والتكرير، كما في قصيدة الحارث بن عَبَّاد البَكري‏:‏

قرّبا مَربط النعامة مني ***

إلخ‏.‏

وفي إعادة ‏{‏إذا‏}‏ إشارة إلى أن مضمون كل جملة من هذه الجمل الثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب عند حصوله بقطع النظر عن تفاوت زمان حصول الشروط فإن زمن سؤال الموءودة ونشر الصحف أقرب لعلم النفوس بما أحضرت أقرب من زمان تكوير الشمس وما عطف عليه مما يحصل قبل البعث‏.‏

وقد ذكر في هذه الآيات اثنا عشر حدثاً فستة منها تحصل في آخر الحياة الدنيوية، وستة منها تحصل في الآخرة‏.‏

وكانت الجمل التي جعلت شروطاً ل ‏{‏إذا‏}‏ في هذه الآية مفتتحة بالمسند إليه المخبَر عنه بمسندٍ فعْلِيَ دون كونها جملاً فعلية ودون تقدير أفعال محذوفة تفسرها الأفعال المذكورة وذلك يؤيد قول نحاة الكوفة بجواز وقوع شرط ‏{‏إذا‏}‏ جملة غيرَ فعلية وهو الراجع لأن ‏{‏إذا‏}‏ غير عريقة في الشرط‏.‏ وهذا الأسلوب لقصد الاهتمام بذكر ما أسندت إليه الأفعال التي يغلب أن تكون شروطاً ل ‏{‏إذا‏}‏ لأن الابتداء بها أدخل في التهويل والتشويق وليفيد ذلك التقديمُ على المسند الفعلي تَقَوِّيَ الحكم وتأكيده في جميع تلك الجمل رداً على إنكار منكريه فلذلك قيل‏:‏ ‏{‏إذا الشمس كورت‏}‏ ولم يقل‏:‏ إذا كورت الشمس، وهكذا نظائره‏.‏

وجواب الشروط الاثني عشر هو قوله‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ وتتعلق به الظروف المشْرَبة معنى الشرط‏.‏

وصيغة الماضي في الجمل الثِنْتَي عشرة الواردة شروطاً ل ‏{‏إذا‏}‏ مستعملةٌ في معنى الاستقبال تنبيهاً على تحقق وقوع الشرط‏.‏

وتكوير الشمس‏:‏ فساد جِرمها لتداخل ظاهرها في باطنها بحيث يختل تركيبها فيختل لاختلاله نظام سيرها، من قولهم‏:‏ كَوَّر العمامة، إذا أدخل بعضها في بعض ولفّها، وقريب من هذا الإطلاق إطلاق الطيّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

وفسر ‏{‏كورت‏}‏ بمعنى غورت‏.‏ رواهُ الطبري عن ابن جبير وقال‏:‏ هي كلمة معربة عن الفارسية وأن أصلها بالفارسية كُور بِكْر ‏(‏بضم الكاف الأولى وسكون الراء الأخيرة‏)‏ وعلى ذلك عُدّت هذه الكلمة مما وقع في القرآن من المعرّب‏.‏ وقد عدها ابن السبكي في نظمه الكلمات المعربة في القرآن‏.‏

وإذا زال ضوء الشمس انكدرت النجوم لأن معظمها يستنير من انعكاس نور الشمس عليها‏.‏

والانكدار‏:‏ مطاوع كَدَّره المضاعف على غير قياس، أي حصل للنجوم انكدار من تكدير الشمس لها حين زال عنها انعكاس نورها، فلذلك ذكر مطاوع كدر دون ذكر فاعل التكدير‏.‏

والكُدرة‏:‏ ضد الصفاء كتغير لون الماء ونحوه‏.‏

وفسر الانكدار بالتساقط والانقضاض، وأنشدوا قول العجاج يصف بازياً‏:‏

أبصَر خِرْبَانَ فَضَاءً فانكدر ***

ومعنى تساقطها تساقط بعضها على بعض واصطدامها بسبب اختلال نظام الجاذبية الذي جعله الله لإمساكها إلى أمد معلوم‏.‏

وتسيير الجبال انتقالها من أماكنها بارتجاج الأرض وزلزالها‏.‏ وتقدم في سورة النبأ‏.‏

و ‏{‏العِشار‏}‏ جمع عُشراء وهي الناقة الحامل إذا بلغت عشرة أشهر لحملها فقاربت أن تضع حملها لأن النوق تحمل عاماً كاملاً، و‏{‏العشار‏}‏ أنفس مكاسب العرب ومعنى ‏{‏عطلت‏}‏ تركت لا ينتفع بها‏.‏

والكلام كناية عن ترك الناس أعمالهم لشدة الهول‏.‏

وعلى هذا الوجه يكون ذلك من أشراط الساعة في الأرض فيناسب ‏{‏وإذا الوحوش حشرت‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏العشار‏}‏ مستعارة للأسحبة المحملة بالمطر، شبهت بالناقة العُشراء‏.‏ وهذا غير بعيد من الاستعمال، فهم يطلقون مثل هذه الاستعارة للسحاب، كما أطلقوا على السحابة اسم بكر في قول عنترة‏:‏

جَادت عليه كلُّ بِكر حُرَّةٍ *** فتركن كُل قَرارة كالدرهم

فأطلق على السحابة الكثيرة الماء اسم البكرِ الحرة، أي الأصيلة من النوق وهي في حملها الأول‏.‏

ومعنى تعطيل الأسحبة أن يَعْرض لها ما يحبس مطرها عن النزول، أو معناه أن الأسحبة الثقال لا تتجمع ولا تحمل ماء، فمعنى تعطيلها تكونها، فيتوالى القحط على الأرض فيهلك الناس والأنعام‏.‏ وعلى هذا الوجه فذلك من أشراط الساعة العلوية فيناسب تكوير الشمس وانكدار النجوم‏.‏

و ‏{‏الوحوش‏}‏‏:‏ جمع وَحش وهو الحيوان البري غير المتأنس بالناس‏.‏

وحَشرها‏:‏ جمعها في مكان واحد، أي مكان من الأرض عند اقتراب فناء العالم فقد يكون سبب حشرها طوفاناً يغمر الأرض من فيضان البحار فكلما غمر جزءاً من الأرض فرت وحوشه حتى تجتمع في مكان واحد طالبة النجاة من الهلاك، ويُشعر بهذا عطف ‏{‏وإذا البحار سُجرت‏}‏ عليه‏.‏

وذكر هذا بالنسبة إلى الوحوش إيماء إلى شدة الهول فالوحوش التي من طبعها نفرة بعضها عن بعض تتجمع في مكان واحد لا يعدو شيءٌ منها على الآخر من شدة الرعب، فهي ذاهلة عما في طبعها من الاعتداء والافتراس، وليس هذا الحشرَ الذي يُحشَر الناس به للحساب بل هذا حشر في الدنيا وهو المناسب لما عدّ معه من الأشراط، وروي معناه عن أبي بن كعب‏.‏

وتسجير البحار‏:‏ فيضانها قال تعالى‏:‏ ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ في سورة الطور ‏(‏6‏)‏‏.‏ والمراد تجاوز مياهها معدل سطوحها واختلاط بعضها ببعض وذلك من آثار اختلال قوة كرة الهواء التي كانت ضاغطة عليها، وقد وقع في آية سورة الانفطار ‏(‏3‏)‏‏:‏ ‏{‏وإذا البحار فجرت‏}‏ وإذا حدث ذلك اختلط ماؤها برملها فتغير لونه‏.‏

يقال‏:‏ سَجّر مضاعفاً وسَجَر مخففاً‏.‏ وَقُرِئ بهما فقرأه الجمهور مشدداً‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مخففاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا النفوس زوجت‏}‏ شروع في ذكر الأحوال الحاصلة في الآخرة يوم القيامة وقد انتقل إلى ذكرها لأنها تحصل عقب الستة التي قبلها وابتدئ بأولها وهو تزويج النفوس، والتزويج‏:‏ جعل الشيء زوجاً لغيره بعد أن كان كلاهما فرداً، والتزويج أيضاً‏:‏ جعل الأشياء أنواعاً متماثلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 3‏]‏ لأن الزوج يطلق على النوع والصنف من الأشياء والنفوس‏:‏ جمع نفس، والنفس يطلق على الروح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27، 28‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أخرجوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏‏.‏

وتطلق النفس على ذات الإنسان قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ أي فليسلم الداخل على أمثاله من الناس‏.‏

فيجوز أن يكون معنى النفوس هنا الأرواح، أي تزوج الأرواح بالأجساد المخصصة لها فيصير الروح زَوجاً مع الجسد بعد أن كان فرداً لا جسم له في برزخ الأرواح، وكانت الأجساد بدون أرواح حين يعاد خلقها، أي وإذا أعطيت الأرواح للأجساد‏.‏ وهذا هو البعث وهوالمعنى المتبادر أولاً، وروي عن عكرمة‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى وإذا الأشخاص نُوعت وصنفت فجعلت أصنافاً‏:‏ المؤمنون، والصالحون، والكفار، والفجار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 7 10‏]‏ الآية‏.‏

ولعل قصد إفادة هذا التركيب لهاذين المعنيين هو مقتضِيَ العدول عن ذكر ما زُوجت النفوس به‏.‏ وأول منازل البعث اقتران الأرواح بأجسادها، ثم تقسيم الناس إلى مراتبهم للحشر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ الآية‏.‏

وقد ذكروا معاني أخرى لتزويج النفوس في هذه الآية غير مناسبة للسياق‏.‏

وبمناسبة ذكر تزويج النفوس بالأجساد خص سؤال الموءودة بالذكر دون غيره مما يُسأل عنه المجرمون يوم الحساب‏.‏ ذلك لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد كان بعد مفارقتها بالموت، والموت إما بعارض جسدي من انحلال أو مرض وإما باعتداء عدواني من قتل أو قتال، وكان من أفظع الاعتداء على إزهاق الأرواح من أجسادها اعتداء الآباء على نفوس أطفالهم بالوأد، فإن الله جعل في الفطرة حرص الآباء على استحياء أبنائهم وجعل الأبوين سبب إيجاد الأبناء، فالوأْد أفظع أعمال أهل الشرك وسؤال الموءودة سؤال تعريضي مراد منه تهديد وائدها وَرُعْبِهِ بالعذاب‏.‏

وظاهر الآية أن سؤال الموءودة وعقوبة من وأدها أول ما يُقْضَى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعلُ هذا السؤال وقتاً تعلم عنده كل نفس ما أحضرت فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء‏.‏

والوأْدُ‏:‏ دفن الطفلة وهي حيّة‏:‏ قيل هو مقلوب آداه، إذا أثقله لأنه إثقال الدفينة بالتراب‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ «كانَ الرجل إذا وُلدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر تَرعَى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها طيّبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها‏:‏ انظري فيها ثم يدفَعُها من خَلْفها ويُهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإن ولدت ابناً حبسته ا ه‏.‏

وكانوا يفعلون ذلك خشية من إغارة العدوّ عليهم فيسبي نساءهم ولخشية الإِملاق في سني الجدب لأن الذكر يحتال للكسب بالغارة وغيرها والأنثى عالة على أهْلها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 58، 59‏]‏‏.‏

وإذ قد فشا فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها فتحركت فيها الخواطر الإِجرامية فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى خشية من فراق زوجها إياها وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى‏.‏

وقد توارثت هذا الجهل أكثر الأمم على تفاوت بينهم فيه، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته‏:‏ «نِعم الصهْر القَبر»‏.‏

ومن آثار هذا الشعور حرمان البنات من أموال آبائهن بأنواع من الحيل مثل وقف أمْوالهم على الذكور دون الإِناث وقد قال مالك‏:‏ إن ذلك من سنة الجاهلية، ورأى ذلك الحُبس باطلاً، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن فلا يمتنعن من ذلك ويرين الامتناع من ذلك عاراً عليهن فإن لم يفعلن قطَعَهن أقرباؤهن‏.‏

وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل‏.‏ وبعضهم يعدها من الإِكراه‏.‏

ولم يكن الوأد معمولاً به عند جميع القبائل، قيل‏:‏ أول من وأد البنات من القبائل ربيعةُ، وكانت كندة تئد البنات، وكان بنو تميم يفعلون ذلك، ووأدَ قيسٌ بن عاصم المِنْقَري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه‏.‏

ولم يكن الوأد في قريش البتةَ‏.‏ وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد ابنته من قومه بناقتين عُشَرَاوين وجَمَل، فقيل‏:‏ إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة، وقيل‏:‏ وسبعين وفي «الأغاني»‏:‏ وقيل‏:‏ أربعمائة‏.‏

وفي «تفسير القرطبي»‏:‏ فجاء الإِسلام وقد أحيا سبعين موءودة ومثل هذا في «كتاب الشعراء» لابن قتيبة وبين العددين بون بعيد فلعل في أحدهما تحريفاً‏.‏

وفي توجيه السؤال إلى الموءودة‏:‏ ‏{‏بأي ذنب قتلت‏}‏ في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجَب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابُها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏بأي ذنب قتلت‏}‏ بيان لجملة ‏{‏سئلت‏}‏‏.‏

و ‏(‏أي‏)‏ اسم استفهام يطلب به تميز شيء من بين أشياء تشترك معه في حال‏.‏

والاستفهام في ‏{‏بأي ذنب‏}‏ تقريري، وإنما سئلت عن تعيين الذنب الموجب قتلها دون أن تُسأل عن قاتلها لزيادة التهديد لأن السؤال عن تعيين الذنب مع تحقق الوائد الذي يسمع ذلك السؤال أن لا ذنب لها إشعار للوائد بأنه غير معذور فيما صنع بها‏.‏

وينتزع من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سئلت بأي ذنب قتلت‏}‏ الواردِ في سياق نفي ذنب عن الموءودة يوجب قتلها استدلالٌ على أنّ من ماتوا من أطفال المشركين لا يعتبرون مشركين مثل آبائهم، وأول من رأيته تعرض لهذا الاستدلال الزمخشري في «الكشاف»‏.‏ وذكر أن ابن عباس استدل على هذا المعنى قال في «الكشاف»‏:‏ «وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذَّبون وإذأ بكَّتَ الله الكافر ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح به وهو الذي لا يَظلِم مثقال ذرة أن يكر على هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فِعل المبكّت من العذاب السرمدي‏.‏ وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية ا ه‏.‏ فأشار إلى ثلاثة أدلة‏:‏

أحدها‏:‏ دلالة الإِشارة، أي لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأي ذنب قتلت‏}‏ يشير إلى أنها لا ذنب لها، وهذا استدلال ضعيف لأن الذنب المنفي وجودُه بطريقة الاستفهام المشوب بإنكار إنما هو الذنب الذي يخول لأبيها وأدها لا إثباتَ حرمتها وعصمة دمها فتلك قضية أخرى على تفصيل فيها‏.‏

الثاني‏:‏ قاعدة إحالة فعل القبيح على الله تعالى على قاعدة التحسين، والتقبيح عند المعتزلة وإحالتهم الظلم على الله إذا عذب أحداً بدون فعله، وهو أصل مختلف فيه بين الأشاعرة والمعتزلة‏.‏ فعندنا أنَّ تصرف الله في عبيده لا يوصف بالظلم خلافاً لهم على أن هذا الدليل مبنيٌّ على أساس الدليل الأول وقد علمت أنه غير سالم من النقض‏.‏

الثالث‏:‏ ما نسبه إلى ابن عباس وهو يشير إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة أنه قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار فقد كذَّب بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت‏}‏‏.‏ وقد أجيب عن القول المروي عن ابن عباس بأنه لم يبلغ مبلغ الصحّة‏.‏ وهذه مسألة من أصول الدين لا يكتفى فيها إلا بالدليل القاطع‏.‏

واعلم أن الأحاديث الصحيحة في حكم أطفال المشركين متعارضة، فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد أو ذراري المشركين‏.‏

فقال‏:‏ ‏"‏ الله أعلم بما كانوا عاملين ‏"‏ وهذا الجواب يحتمل الوقف عن الجواب، أي الله أعلم بحالهم كقول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏علمُها عند ربي في كتاب‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 52‏]‏ جواباً لقول فرعون‏:‏ ‏{‏فما بال القرون الأولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 51‏]‏‏.‏ ويحتمل أن المعنى الله أعلم بحال كل واحد منهم لو كبر مَاذا يكون عاملاً من كفر أو إيمان، أي فيعامله بما علم من حاله‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم ‏(‏ببعض اختلاف في اللفظ‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كل مولود يولد على الفِطرة فأبواه يُهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه ‏"‏ الحديث‏.‏ زاد في رواية مسلم‏:‏ ثُم يقول ‏(‏أي أبو هريرة‏)‏ اقرأوا‏:‏ ‏{‏فطرت اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ فيقتضي أنهم يولدون على فطرة الإسلام حتى يدخل عليه من أبويه أو قريبه أو قرينه ما يُغيره عن ذلك وهذا أظهر ما يستدل به في هذه المسألة‏.‏

وقال المازري في «المعلم»‏:‏ فاضطرب العلماء فيهم‏.‏ والأحاديث وردت ظواهرها مختلفة واختلاف هذه الظواهر سَبب اضطراب العلماء في ذلك والقطع ههنا يبعُد ا ه‏.‏

وقول أبي هريرة‏:‏ واقرأوا‏:‏ ‏{‏فطرت اللَّه التي فطر الناس عليها‏}‏ الخ مصباح ينير وجه الجمع بين هذه الأخبار‏:‏ وقد ورد في حديث الرؤيا عن سمرة بن جندب ما هو صريح في ذلك إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأما الرجل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام وأما الوِلْدَانُ الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة ‏"‏‏.‏ قال سمرة فقال بعض المسلمين‏:‏ يا رسول الله ‏"‏ وأولادُ المشركين‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولادُ المشركين ‏"‏‏.‏ واختلفت أقوال العلماء في أولاد المشركين فقال ابن المبارك وحمّاد بن سلمة وحمّاد بن زيد وإسحاق بن راهويه والشافعي هُم في مشيئة الله‏.‏ والصحيح الذي عليه المحققون والجمهور أنهم في الجنة وهو ظاهر قول أبي هريرة‏.‏ وذهب الأزارقة إلى أن أولاد المشركين تبع لآبائهم، وقال أبو عبيد‏:‏ سألت محمد بن الحسن عن حديث‏:‏ ‏"‏ كل مولود يولد على الفطرة ‏"‏ فقال‏:‏ كان ذلك أول الإِسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يفرض الجهاد‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ كأنه يعني أنه لو ولد على الفطرة لم يَرِثاه لأنه مسلم وهما كافران فلما فرضت الفرائض على خلاف ذلك جاز أن يسمى كافراً وعلم أنه يولد على دينهما‏.‏

وهنالك أقوال أخرى كثيرة غير معزوة إلى معيّن ولا مستندة لأثر صحيح‏.‏

وذكر المازري‏:‏ أن أطفال الأنبياء في الجنة بإجماع وأن جمهور العلماء على أن أطفال بقية المؤمنين في الجنة وبعض العلماء وقف فيهم، وقال النووي‏:‏ أجمع من يُعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «قُتلت» بتخفيف المثناة الأولى، وقرأه أبو جعفر بتشديدها وهي تفيد معنى أنه قَتْل شديد فظيع‏.‏

ونشر الصحف حقيقته‏:‏ فتح طيّات الصحيفة، أو إطلاق التفافها لتقرأ كتابتها، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتَى صُحفاً مُنَشَّرة‏}‏ في سورة المدثر ‏(‏52‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏كتاباً يلقاه منشوراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏13‏)‏‏.‏

والمراد‏:‏ صحف الأعمال، وهي إما صحف حقيقية مخالفة للصحف المألوفة، وإما مجازية أطلقت على أشياء فيها إحصاءُ أعمال الناس، وقد تقدم غير مرة‏.‏

وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب‏:‏ ‏{‏نُشِرت‏}‏ بتخفيف الشين‏.‏ وقرأه الجمهور بتشديد الشين للتكثير لكثرة الصحف المنشورة‏.‏

والكشط‏:‏ إزالة الإهاب عن الحيوان الميّت وهو أعم من السلخ لأن السلخ لا يقال إلا في إزالة إهاب البقر والغنم دون إزالة إهاب الإِبل فإنه كشط ولا يقال‏:‏ سلخ، والظاهر أن المراد إزالة تقع في يوم القيامة لأنها ذكرت في أثناء أحداث يوم القيامة بعد قوله‏:‏ ‏{‏وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤدة سئلت‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا الصحف نشرت‏}‏‏.‏

فالظاهر أن السماء تبقَى منشقة منفطرة تعرج الملائكة بينهما وبين أرض المحشر حتى يتم الحساب فإذا قضي الحساب أزيلت السماء من مكانها فالسماء مكشوطة والمكشوط عنه هو عالم الخلود، ويكون ‏{‏كشطت‏}‏ إستعارة للإِزالة‏.‏

ويجوز أن يكون هذا من الأحداث التي جُعلت أشراطاً للساعة وأُخر ذكره لمناسبة ذكر نشر الصحف لأن الصحف تنشرها الملائكة وهم من أهل السماء فيكون هذا الكشط من قبيل الانشقاق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 1‏]‏ والانفطار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا السماء انفطرت‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 1 5‏]‏ فيكون الكشط لبعض أجزاء السماء والمكشوط عنه بعض آخر، فيكون من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏ ومن قبيل الطي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏ لأن ظاهره اتصالُ طيّ السماء بإعادة الخلق، وتصير الأشراط التي تحصل قبل البعث سبعة والأحداث التي تقع بعد البعث خمسة‏.‏

والجحيم أصله‏:‏ النار ذات الطبقات من الوَقود من حَطب ونحوه بعضها فوق بعض، وصار علَماً بالغلبة على جهنم دار العذاب في الآخرة في اصطلاح القرآن، وتسعيرها أو إسعارها‏:‏ إيقادها، أي هُيّئت لعذاب من حقّ عليهم العذاب‏.‏

وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ورويس عن يعقوب‏:‏ ‏{‏سُعّرت‏}‏ بتشديد العين مبالغة في الإِسعار‏.‏ وقرأه الباقون بالتخفيف‏.‏

وقوبلت بالجنة دار النعيم واسم الجنة علم بالغلبة على دار النعيم، و‏{‏أزلفت‏}‏ قربت، والزلفى‏:‏ القرب، أي قربت الجنة من أهلها، أي جعلت بقرب من محشرهم بحيث لا تَعَب عليهم في الوصول إليها وذلك كرامة لهم‏.‏

واعلم أن تقديم المسند إليه في الجمل الثِنْتي عشرة المفتتحات بكلمة ‏{‏إذا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إذا الشمس كورت‏}‏ إلى هنا، والإِخْبار عنه بالمسند الفعلي مع إمكان أن يقال‏:‏ إذا كورت الشمس وإذا انكدرت النجوم، وهكذا كما قال‏:‏ ‏{‏فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 37‏]‏ أن ذلك التقديم لإفادة الاهتمام بتلك الأخبار المجعولة علامات ليوم البعث توسلاً بالاهتمام بأشراطه إلى الاهتمام به وتحقيق وقوعه‏.‏

وإن إطالة ذكر تلك الجمل تشويق للجواب الواقع بعدها بقوله‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ يتنازع التعلق به كلمات ‏{‏إذا‏}‏ المتكررة‏.‏

وعن عمر بن الخطاب‏:‏ «أنه قرأ أول هذه السورة فلما بلغ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ قال‏:‏ لهذا أجريت القصة» أي هو جواب القسم ومعنى ‏{‏علمت‏}‏ أنها تعلم بما أحضرت فتعلمه‏.‏

وقوله ‏{‏نفس‏}‏ نكرة في سياق الشرط مُراد بها العموم، أي علمت كل نفس ما أحضرتْ، واستفادة العموم من النكرة في سياق الإثبات تحصل من القرينة الدالة على عدم القصد إلى واحد من الجنس، والقرينة هنا وقوع لفظ نفس في جواب هذه الشروط التي لا يخطر بالبال أن تكون شروطاً لشخص واحد، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والإحضار‏:‏ جعل الشيء حاضراً‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏علمتْ نفس ما أحضرت‏}‏ حصول اليقين بما لم يكن لها به علم من حقائق الأعمال التي كان علمها بها أشتاتاً‏:‏ بَعْضه معلوم على غير وجهه، وبعضه معلوم صورتُه مجهولةٌ عواقبه، وبعضه مغفول عنه‏.‏ فنزّل العلم الذي كان حاصلاً للناس في الحياة الدنيا منزلة عدم العلم، وأثبت العلم لهم في ذلك اليوم علم أعمالهم من خير أو شر فيعلَم ما لم يكن له به علم مما يحقره من أعماله ويتذكر ما كان قد علمه من قبل، وتذكُّر المنسي والمغفول عنه نوع من العلم‏.‏

وما أحضرته هو ما أسلفته من الأعمال‏.‏ ولما كانت الأعمال تظهر آثارها من ثواب وعقاب يومئذ عبر عن ظهور آثارها بالإحضار لشببه به كما يحضر الزاد للمسافر ففي فعل‏:‏ ‏{‏أحضرت‏}‏ استعارة‏.‏ ويطلق على ذلك الإعداد كقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله متى الساعة‏:‏ ‏"‏ ماذا أعددت لها ‏"‏‏.‏

وأسند الإحضار إلى النفوس لأنها الفاعلة للأعمال التي يظهر جزاؤها يومئذ فهذا الإسناد من إسناد فعل الشيء إلى سَبب فعله، فحصل هنا مجازان‏:‏ مجاز لغوي، ومجاز عقلي، وحقيقتهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء‏}‏‏.‏

وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها حاصلة عند حصول مجموع الشروط التي ذكرت في الجمل الثنتي عشرة لأن بعض الأحوال التي تضمنتها الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها وهي الأحوال الستة المذكورة أخيراً، وبعض الأحوال حاصل من قبل بقليل وهي الأحوال الستة المذكورة أولاً‏.‏ فنزل القريب منزلة المقارن، فلذلك جعل الجميع شروطاً ل ‏{‏إذا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ‏(‏15‏)‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏(‏17‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏19‏)‏ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ‏(‏20‏)‏ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإِشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به، فلما قُضي حق الإِنذار به وذكر أشراطه فرع عنه تصديق القرآن الذي أنذرهم به وأنه موحى به من عند الله‏.‏

فالتفريع هنا تفريع معنىً وتفريع ذِكرٍ معاً، وقد جاء تفريع القَسَم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير‏:‏

فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله *** رجال بَنَوْه من قريش وجُرْهُم

عَقِب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بَعْد القَسَم وإنما قصد به أن ما تقدم من الكلام إنما هو للإِقبال على ما بعد الفاء، وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏(‏لا أقسم‏)‏‏:‏ إيقاع القسم، وقد عُدّت ‏(‏لا‏)‏ زائدة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏75‏)‏‏.‏

والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه، وأدمج فيه أوصاف الأشياء المُقْسَم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى‏.‏

و ‏(‏الخُنّس‏)‏‏:‏ جمع خانسة، وهي التي تخنس، أي تختفي، يقال‏:‏ خنست البقرة والظبية، إذا اختفت في الكناس‏.‏

و ‏(‏الجواري‏)‏‏:‏ جمع جارية، وهي التي تجري، أي تسير سيراً حثيثاً‏.‏

و ‏{‏الكنس‏}‏‏:‏ جمع كانسة، يقال‏:‏ كَنسَ الظبي، إذا دخل كِناسه ‏(‏بكسر الكاف‏)‏ وهو البيت الذي يتخذه للمبيت‏.‏

وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه، فقيل‏:‏ الخُنَّس وهو من بديع التشبيه، لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون سكون في كناس، وكذلك الكواكب لأنها لا تُرى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها‏.‏

وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلها في سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش، فشبهت حالة بُدُوّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري بعد خنوسها تشبيه التمثيل‏.‏ وهو يقتضي أنها صارت مرئية فلذلك عقب بعد ذلك بوصفها بالكُنّس، أي عند غروبها تشبيهاً لغروبها بدخول الظبي أو البقرة الوحشية كِناسها بعد الانتشار والجري‏.‏

فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها، وشبه تنقل مَرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحاً، قال لبيد‏:‏

حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت *** بَكَرَتْ تَزل عن الثرى أزلامُها

وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع فكان قوله‏:‏ ‏{‏بالخنس‏}‏ استعارة وكان ‏{‏الجوار الكنس‏}‏ ترشيحين للاستعارة‏.‏

وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش، والإِلغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية‏:‏

فقلت أعيراني القَدوم لعلّني *** أخُطُّ بها قبْراً لأبيض ماجد

أراد أنه يصنع بها غِمداً لسيف صقيل مهند‏.‏

وعن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس‏:‏ حمل هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة، وأن الله أقسم بالظباء وبقر الوحش‏.‏

والمعروف في إقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة‏.‏

ثم عطف القسم ب ‏{‏الليل‏}‏ على القسم ب «الكواكب» لمناسبة جريان الكواكب في الليل، ولأن تعاقب الليل والنهار من أجل مظاهر الحكمة الإلهية في هذا العالم‏.‏

وعسعس الليلُ عَسْعَاساً وعسعسة، قال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ أقبل بظلامه، وقال مجاهد أيضاً عن ابن عباس معناه‏:‏ أدبر ظلامه، وقاله زيد بن أسلم وجزم به الفراء وحكى عليه الإجماع‏.‏ وقال المبرد والخليل‏:‏ هو من الأضداد يقال‏:‏ عسعس، إذا أقبل ظلامه، وعسعس، إذا أدبر ظلامه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال المبرد‏:‏ أقسم الله بإقبال الليل وإدباره معاً ا ه‏.‏

وبذلك يكون إيثار هذا الفعل لإفادته كلا حَالَين صالحين للقسم به فيهما لأنهما من مظاهر القدرة إذ يعقب الظلام الضياء ثم يعقب الضياء الظلام، وهذا إيجاز‏.‏

وعُطف عليه القسم بالصُبح حين تنفسه، أي انشقاق ضوئه لمناسبة ذكر الليل، ولأن تنفس الصبح من مظاهر بديع النظام الذي جعله الله في هذا العالم‏.‏

والتنفس‏:‏ حقيقته خروج النَفس من الحيوان، استعير لظهور الضياء مع بقايا الظلام على تشبيه خروج الضياء بخروج النَفَس على طريقة الاستعارة المصرحة، أو لأنه إذا بدا الصباح أقبل معه نسيم فجُعل ذلك كالتنفس له على طريقة المكنية بتشبيه الصبح بذي نفس مع تشبيه النسيم بالأنفاس‏.‏

وضمير ‏{‏إنه‏}‏ عائد إلى القرآن ولم يسبق له ذكر ولكنه معلوم من المقام في سياق الإخبار بوقوع البعث فإنه مما أخبرهم به القرآن وكذبوا بالقرآن لأجل ذلك‏.‏

والرسول الكريم يجوز أن يراد به جبريل عليه السلام، وصف جبريل برسول لأنه مرسل من الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن‏.‏

وإضافة «قول» إلى ‏{‏رسول‏}‏ إما لأدنى ملابسة لأن جبريل يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحكيها كما أمره الله تعالى فهو قائلها، أي صادرة منه ألفاظها‏.‏

وفي التعبير عن جبريل بوصف ‏{‏رسول‏}‏ إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وقال آخرون الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم في الآية كلها اه‏.‏ ولم يُعين اسم أحد ممن قالوا هذا من المفسرين‏.‏

واستُطرد في خلال الثناء على القرآن الثناءُ على المَلَك المرسل به تنويهاً بالقرآن فإجراء أوصاف الثناء على ‏{‏رسول‏}‏ للتنويه به أيضاً، وللكناية على أن ما نزل به صِدق لأن كمال القائل يدل على صدق القول‏.‏

ووُصِفَ ‏{‏رسول‏}‏ بخمسة أوصاف‏:‏

الأول‏:‏ ‏{‏كريم‏}‏ وهو النفيس في نوعه‏.‏

والوصفان الثاني والثالث‏:‏ ‏{‏ذي قوة عند ذي العرش مكين‏}‏‏.‏ فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على الأعمال العظيمة التي لا يَقدر عليها غالباً‏.‏ ومن أوصافه تعالى‏:‏ «القوي»، ومنها مقدرة الذات من إنسان أو حيوان على كثير من الأعمال التي لا يقدر عليها أبناء نوعه‏.‏

وضدها الضعف قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وتطلق القوة مجازاً على ثبات النفس على مرادها والإِقدام ورباطة الجأش، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏، فوصف جبريل ب ‏{‏ذي قوة‏}‏ يجوز أن يكون شدة المقدرة كما وصف بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذو مرة‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 6‏]‏، ويجوز أن يكون في القوة المجازية وهي الثبات في أداء ما أرسل به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمه شديد القوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 5‏]‏ لأنّ المناسب للتعليم هو قوة النفس، وأما إذا كان المراد محمد صلى الله عليه وسلم فوصفه ب ‏{‏ذي قوة عند ذي العرش‏}‏ يراد بها المعنى المجازي وهو الكرامة والاستجابة له‏.‏

والمكين‏:‏ فعيل، صفة مشبهة من مكُن بضم الكاف مكانة، إذا علت رتبته عند غيره، قال تعالى في قصة يوسف مع المِلك‏:‏ ‏{‏فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وتوسيط قوله‏:‏ ‏{‏عند ذي العرش‏}‏ بين ‏{‏ذي قوة‏}‏ و‏{‏مكين‏}‏ ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز، أي هو ذو قوة عند الله، أي جعل الله مقدرة جبريل تخوِّله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى‏.‏

ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على نحو ما تقدم‏.‏

والعندية عندية تعظيم، وعناية، ف ‏(‏عند‏)‏ للمكان المجازي الذي هو بمعنى الاختصاص والزُلفى‏.‏ 4

وعُدل عن اسم الجلالة إلى ‏{‏ذي العرش‏}‏ بالنسبة إلى جبريل لتمثيل حال جبريل ومكانته عند الله بحالة الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك وهو بمحل الكرامة لديه‏.‏

وأما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فللإِشارة إلى عظيم شأنه إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأناً‏.‏

الوصف الرابع‏:‏ ‏{‏مطاع‏}‏ أن يطيعه من معه من الملائكة كما يطيع الجيش قائدهم، أو النبي صلى الله عليه وسلم مطاع‏:‏ أي مأمور الناسُ بطاعة ما يأمرهم به‏.‏

و ‏{‏ثَمَّ‏}‏ بفتح الثاء اسم إشارة إلى المكان، والمشار إليه هو المكان المجازي الذي دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏عند ذي العرش‏}‏ فيجوز تعلق الظرف ب ‏{‏مطاع‏}‏ وهو أنسب لإجراء الوصف على جبريل، أي مطاع في الملأ الأعلى فيما يأمر به الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم مطاعٌ في العالم العلوي، أي مقرَّر عند الله أن يطاع فيما يأمر به‏.‏

ويجوز أن يتعلق ب ‏{‏أمين‏}‏، وتقديمه على متعلَّقه للاهتمام بذلك المكان، فوصف جبريل به ظاهر أيضاً، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم به لأنه مقررةٌ أمانته في الملأ الأعلى‏.‏

والأمين‏:‏ الذي يحفظ ما عُهد له به حتى يؤدّيه دون نقص ولا تغيير، وهو فعيل إما بمعنى مفعول، أي مأمون من أمنه على كذا‏.‏ وعلى هذا يقال‏:‏ امرأة أمين، ولا يقال‏:‏ أمينة، وإما صِفة مشبهة من أمُن بضم الميم إذا صارت الأمانة سجيته، وعلى هذا الوجه يقال‏:‏ امرأة أمينة، ومنه قول الفقهاء في المرأة المشتكية أضرار زوجها‏:‏ يجعلان عند أمينة وأمين‏.‏